في واقعٍ سياسيٍّ مأزومٍ ومرحلةٍ وطنية حرجة، تتكشف لنا الحقائق المرة، ويتبيّن أن معظم المكونات التي تعمل في صف “الشرعية” لا تحمل في جوهرها مشروعًا وطنيًا جامعًا وشريفًا ينطلق من الدستور اليمني وأسس نظام الحكم الرشيد، بل تتنازعها الانتماءات الضيقة والمعايير غير الوطنية، وتحكمها ثقافة التبعية العمياء و”العصبية” المقنّعة برداء الدين أو الجغرافيا أو الزعامة.
ومن المفارقات المؤلمة أن هذه الكيانات – التي تدّعي مناهضة الاستبداد الحوثي – تمارس داخليًا أنماطًا لا تقل تشوهًا: فالحزب أو الفصيل يُدار بعقلية التابع والمتبوع، والسيد والخادم، والمالك والمملوك، وداخل كل كيانٍ، ثمة تقسيم طبقي: “قناديل” يُشرّعون ويوجّهون ويُصنع لهم المجد، و”زنابيل” يُستثمر ولاؤهم، ويُصادر وعيهم، وتُحاصر طموحاتهم.
المشكلة ليست في تعدد الآراء، بل في تعدد “الآلهة السياسية” التي نصّبها كل حزب على نفسه، ثم جعل من طاعتها قُربى، ومن نقدها جريمة. فهناك من يجعل الولاء لـ”المرشد” معيار الدين والتقوى، ومن يجعل القرب من “الشيخ أو القائد” معيار الوطنية ودخول الجنة، ومن يجعل الانتماء للمنطقة أو السلالة مفتاحاً للترقي والامتياز، أما الحديث عن المؤسسات والقانون والعدالة والكفاءة والشورى، فهو مجرد شعارات يتغنون بها أمام المانحين والعدسات، لا واقعًا يُحتكم إليه، ولا مبدأ يُضحّى من أجله.
إنها أزمة مشروع، وليست أزمة أشخاص فحسب. فلا توجد مهنية حقيقية، ولا كفاءة معيارية، ولا تضحيات خالصة لوجه الوطن يُقاس الناس عليها، بل إن بعض الجماعات لا تختلف عن تنظيم الحوثي إلا في الشكل: فالحوثي يزعم أنه “مُعين من السماء”، أما هم، فيتصرفون كأنهم “ملوك الأرض”. أيُّ عبثٍ هذا؟ وأيُّ أملٍ يُرجى من مشاريع لا ترى في المواطن شريكًا، بل تابعًا؟ وأيُّ خلاصٍ ننتظره ممن قايضوا حلم الدولة بجاه الزعامة، وحكم المؤسسات بإقطاعيات النفوذ؟
إننا بحاجة إلى ثورة وعي تبدأ من تفكيك هذه الأصنام التي نُصبت في عقول الأتباع، وإعادة الاعتبار للقيم الكبرى: سيادة القانون، والمواطنة المتساوية، والولاء للوطن لا للأشخاص، والعمل من خلال مؤسسات شفافة، وبناء مشروع وطني جامع.
وفي هذا السياق، فإننا ندعو رئيس مجلس القيادة الرئاسي، والحكومة اليمنية، إلى المضي الحازم في طريق توحيد الصف الوطني، وجمع الكلمة، وتجاوز كل الخلافات الهامشية، وتغليب صوت الوطن على صوت الفصيل والمصلحة الضيقة، فلسنا في فسحة للتنظير أو مزيدٍ من الانقسام، وواجب الوقت يفرض علينا سدّ كل ثغرات التفرقة، ومواجهة عوامل التشظي والانحراف. إنها لحظة تاريخية تتطلب من القيادة الحكمة، والحزم، والشجاعة في ترميم الجبهة الداخلية على أسس عادلة ووطنية، حتى لا يضيع اليمن أكثر، ولا يظل الوطن رهينة تجاذبات من لا مشروع لهم، وحتى يتحقق ذلك، سيظل الصراع في اليمن صراع أصنام، تختلف الأسماء، وتتشابه الأدوار، ويبقى الوطن هو الضحية الأكبر.
المستشار خالد علي الجعمي








